عظة رأس السنة ٢٠١٨
مريم والدة الله
أصحاب السيادة المطارنة الأجلاء
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء
ليمنحكم الله سلامه، ولتكن السنة الجديدة سنة سلام وبركة
نبدأ اليوم سنة جديدة. وهذا اليوم الأول إنما هو يوم للتفكير والصلاة ولنشكر لله على كل ما منحنا إياه في السنة التي انقضت، ولنرفع ابتهالنا إليه تعالى، ولا سيما للصلاة من أجل السلام، في هذا اليوم المخصص عالميا للصلاة من أجل السلام.
ولنستمع أولا لكلمة الله التي ألقيت علينا قبل قليل.
الآيات الإنجيلية (لوقا ٢: ١٦–٢١) في هذا اليوم لا تتلو علينا حدثًا خاصًّا ذا أهمية. الحدث الوحيد والجوهري هو ما حدث وسمعناه قبل أيام، أي ميلاد الطفل الإلهي الذي بشر به الملائكة وقالوا إنه المخلص والمسيح الرب (لوقا ٢: ١١).
ومع ذلك، ففي الآيات الإنجيلية اليوم أمر مهم، لأنها تبين لنا كيف يجب أن ننظر إلى ما يحدث، كيف يجب علينا أن نضع أنفسنا دائما من جديد في حالة إصغاء وطاعة، لنستقبل ما يحدث. لأن أمرا عظيما وجميلا حدث ويجب أن نرحب به لنجعله في ذاتنا حياة جديدة.
في الآيات الإنجيلية في هذا اليوم، نحن أمام عدة أشخاص يبينون لنا كيف نتعامل مع هذا الحدث الكبير والبسيط في آن.
أولهم الرعاة. بعد سماعهم بشارة الملاك أخذوا يسيرون، يبحثون في الليل، ومن “غير تأخير” (لوقا ٢: ١٦). حتى وجدوا العلامة بحسب ما قال لهم الملاك. قام الرعاة بحركتين: أولا، بعد أن وصلوا إلى المغارة وشاهدوا الطفل “أخبروا بما قيل لهم عن الطفل” (لوقا ٢: ١٧). أصبح الرعاة مبشرين وملائكة مرسَلين هم أيضا يحملون بشارة عظيمة وجميلة، أعظم وأجمل من أن يحتفظوا بها لأنفسهم فقط. فأشركوا غيرهم فيها، رووا ما سمعوا ورأوا، وأعطوا ما أعطاهم الله. ثانيا، “عادوا يسبحون الله ويمجّدونه لكل ما سمعوا ورأوا” (لوقا ٢: ٢٠). امتلأوا بالفرح لهذه الهبة التي منحهم إياها الله، لهذا الامتياز، الذي جاءهم من فضله تعالى فقط، ومن غير استحقاق منهم. فسبحوا وشكروا الله وأشادوا بنعمة الخلاص التي قبلوها. بعد أن أشركوا غيرهم في ما نالوا، أعادوا الهبة إلى واهبها، إلى الله.
في بداية حياة يسوع، في أول حضور لله في تاريخنا، حدث ما سيحدث مرات كثيرة في حياتنا في ما بعد: من التقى سر الله، من بلغه سر الله، يبدأ مسيرة ويحمل بشرى إلى الآخرين، ويكشف لهم السرَّ الذي كُشِفَ له. ويكشفه بمثل كلام الرعاة أنفسهم، الذين سمعوا ورأوا. لم يسمعوا فقط ولم يروا فقط، بل سمعوا ورأوا. استقبلوا رسالة من السماء، ثم رأوا بأعينهم. وجمعوا بين الأمرين، بين ما سمعوا وما رأوا. وتذكروا. ما رأوه كان تماما مثل ما سمعوا، مثل “ما قيل لهم” (لوقا ٢: ٢٠). وهم يبشرون خصوصا من خلال فرحهم، وبتسبيحهم. وهذا الفرح أيضا حمله إليهم الملائكة، هدية من العلى، أحسوا بها وأشركوا فيها غيرهم. كل من يقبل هدية، يقوم بهذين الأمرين: يشكر الله ويشرك إخوته فيها.
وثانيًا، إلى جانب الرعاة أشخاص آخرون، يشير إليهم لوقا بهذه العبارة “كل من سمعهم” (لوقا ٢: ١٨): من كان هناك يا ترى في ذلك المكان في تلك الليلة؟ أيًّا كانوا هم أيضا مدعوون ليستقبلوا الحدث الجديد الذي صنعه الله. لا يذكر لوقا شيئًا عنهم، إلا أنهم “دهشوا” بعد سماعهم لكلام الرعاة (لوقا ٢: ١٨). الاندهاش، العجب، يظهر في من لا يحصر الحياة وما يحدث فيها، في ما يفهمه هو فقط، أو في ما يريده أو في ما يقدر عليه: بل يعرف أن الحياة أكبر منه، وأن الله هو الذي يملأها ويجعلها كبيرة إلى ما لا نهاية. هذه أول صورة للإيمان.
واليوم نحتفل بعيد سيدتنا مريم العذراء والدة الإله. فلننظر إليها. هي أيضا قامت بأمرين: الأول أنها استقبلت يسوع من خلال الرعاة أيضا. هي ولدت الطفل، ثم أدركت فورًا أن هذا الطفل ليس فقط طفلها، وأنها وحدها لا تقدر أن تسعه. بل يجب أن تستقبله في كل مرة، لأن سره أكبر من أن يُحَدّ. وضعت مريم نفسها في حالة إصغاء دائم، وكل الأشخاص الذين ستلقاهم على الطريق (الرعاة، والمجوس، ثم سمعان وحنة النبية) سيكشفون لها، كل واحد منهم، شيئا جديدًا.
والأمر الثاني هو أنها كانت تحفظ كل شيء في قلبها وتتأمل فيه (لوقا ٢: ١٩). تحفظ وتتأمل، يعني أنها تجمع وتثبت الاحداث في ذاتها، وتنزلها في أعماقها، حتى لا تفقد شيئا منها، حتى لا تنسى، حتى تفهم خطة الخلاص. مريم كوَّنت في ذاتها حافظة ذكريات، تعود إليها لتقف أمام السر، لتقدر أن تلده في كل مرة من جديد.
في بداية هذه السنة الجديدة إنجيل اليوم يفتح أمامنا الطريق إلى الله، هو بوصلة تدلنا كيف نقف في هذا الزمن أمام الله، وكيف نستقبل فيه نعمته تعالى.
ليس علينا أن نقوم بأي عمل خاص، ولا أن نخلق نحن أحداث الحياة: الأحداث تحدث وحدها. ولكن المهم أن نكون في داخل أنفسنا، مثل الرعاة، ومثل الحاضرين في مغارة بيت لحم، مثل مريم، اي بمثل إيمانهم الذي يظهر بالاندهاش والإصغاء، والفرح والتسبيح، والحفظ والذاكرة، والإشراك في الهبات التي نُعطاها. هكذا تكبر الهبة وتزداد، وتصبح حية ومحيية وتخلق علاقات وتخلِّص.
هذه الآيات الإنجيلية تقول لنا أيضًا شيئًا ما عن السلام، السلام الذي كثيرًا ما رددناه في هذه الأيام الميلادية، والذي نحتفل به، مع أنه يبدو حتى الآن بعيدا عن واقعنا اليومي. إنجيل اليوم يقدم لنا بعض الإشارات العملية لنفهم السلام.
الموقف الأول، نحن غالبا ما ننتظر السلام من الآخرين، من أصحاب السياسة والسلطان في هذا العالم: نقول إنهم هم المسؤولون لتحقيق فرص السلام، وإلى بناء السلام على الصعيد الدولي. ننتظر السلام من رؤسائنا، الذين يجب أن يجدوا الحلول لمشاكلنا بين جماعاتنا الكثيرة. ننتظر السلام من مختلف المسؤولين على الصعيد الدولي والوطني والديني والعائلي.
أما إنجيل اليوم فيقول لنا إن السلام هو مسؤولية الجميع: الرعاة، والذين سمعوا من الرعاة، ومريم العذراء، ثم هيرودس والمجوس وغيرهم كثيرون.
أمام “أمير السلام” (أشعيا ٩: ٥) الجميع مدعوون إلى اتخاذ موقف وتحمّل المسؤولية. لا أحد مستثنى من التزام السلام. السلام التزام الجميع، وليس فقط الرؤساء في الوظيفة. لا يفيد طلب السلام من كبار هذا العالم إن لم نعمل نحن على بنائه في عالمنا الصغير. مصيرنا جميعًا واحد، مصير كلنا مع كلنا. ما أصنعه أنا في بيئتي الصغيرة وفي عائلتي هو إسهام، وعون ومشاركة في السلام الذي على كبار هذا العالم أن يصنعوه.
الإنجيل يقول لنا إن السلام إنما هو موقف من الحياة ومن التاريخ، وليس أمرا خارجا عن ذاتنا، يصنعه الآخرون، ولا نصنعه نحن، فنحن مسؤولون بصورة مباشرة.
مثل الرعاة، نحن أيضا يجب أن نبشر بالسلام، أي يجب أن نشرك غيرنا فيه، وأن نسلِّمه لغيرنا، وأن نتشارك في صنعه. إن كانت هبة السلام فينا، إن كان أمير السلام حقًّا فينا، لا بد من أن نبشر به، من خلال مواقفنا، وكيفية عيشنا في ذاتنا وفي العائلة وفي المجتمع، والشبيبة، وفي نشاطاتنا الراعوية، وفي عملنا السياسي… كبار هذا العالم لا يقدرون أبدا أن يصنعوا السلام إن لم يعش الصغار السلام في ذاتهم. ليكون سلام لا يكفي أن نندد بغياب السلام، بل يجب أن تكون لنا الجرأة لبناء السلام بالرغم من كل شيء. يجب أن نبني مثل الرعاة. ما سمعناه وما رأيناه، وما هو فينا أولا خبرة وحياة، به نبني السلام.
الموقف الثاني، قلنا هو الاندهاش. أن نترك أنفسنا نندهش ونعجب في أيامنا هذه هو أمر صعب، إذ نجد كل شيء على متناول اليد، في وسائل التواصل وفي كل وقت. ماذا يمكن أن يفاجئنا بعد فيدهشنا؟ ومع ذلك فإن أمورًا صالحة كثيرة تحدث، حتى في هذه الأيام، فينا وبيننا وحولنا، إنما لا نعرف أن نراها، فنندهش. هي علامات صغيرة أو كبيرة، علامات محبة، ومشاركة، وضيافة، وأخُوّة وسلام، تحدث حتى في هذه الأيام، بالرغم من كل شيء. أن نندهش ونحتفل بهذه الإشارات النادرة والمدهشة في أيامنا هذه هو أمر ضروري أكثر من كل وقت مضى. هذا ما يولِّد الأمل، ما يبين لنا أن الحياة تسير بالرغم من كل شيء وأننا قادرون على الحب، الذي نحتاج إليه جميعا.
مريم العذراء تعلمنا أن لا أحد يملك السلام. هي التي ولدت أمير السلام، وحملته في ذاتها تسعة أشهر وكانت تعرفه أفضل من كل واحد غيرها. ومع ذلك كانت تصغي إلى كل ما كان يروى لها عما حدث وكيف فهم غيرها الحدث. أن نتعلم نحن أيضًا أن نصغي إلى الآخر، أن نقبل رؤيته، أن نفتح عيوننا وقلبنا للآخر هو أمر حيوي في صنع السلام. السلام لا يبنى فقط بما نفكر نحن ونصنع نحن. نحن بحاجة إلى الآخر كما هو، وليس الآخر كما نريده أن يكون.
وأخيرا نحفظ. لأننا لا نفهم فورًا كل ما يحدث، فيجب أن نتعلم أن نحفظ في قلبنا وأن نتأمل، فننضِّج وننَمِّي، من غير أن نتسرَّع في الحكم، بل نترك للزمن أن يبيِّن لنا حقيقة ما يحدث. في زمننا اليوم لا مكان للذاكرة، نريد أن يتم كل شيء فورا. أن نحفظ في قلوبنا وننضِّج الأحداث فيها، هذا تعليم مهم.
+ بييرباتيستا بيتسابالا
المدبر الرسولي للبطريركية اللاتينية