خميس الأسرار ٢٠١٨
٢٩ آذار ٢٠١٨
في قداس الميرون والعشاء الأخير
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء
اجتمعنا هنا، نحن كنيسة يسوع المسيح الذين نعيش في القدس، لنحتفل بذكرى الليلة الأخيرة من حياة الرب في هذه المدينة، الليلة التي أسلِم فيها. إننا نذكرها في كل يوم، في كل قداس، ومع ذلك فإن قوة الذكرى في هذا اليوم وفي هذا الاحتفال ما زالت حية شديدة، تغمر مشاعرنا. إحياء الذكرى اليوم يقول لنا إننا لا نستطيع أن نصل إلى سر فصح الرب من دون المرور بتلك الليلة. ونحتفل بها ليس فقط كذكرى، ولكن بمثابة سر وحقيقة متزامنة مع واقعنا اليوم ومع كل زمن، ومع ذبيحة المسيح التي تتِمّ بالروح القدس، كلما احتفلنا بالأسرار الإلهية. حياة المسيح التاريخية تمت واكتملت لدى الآب، ولكن ما عاشه هو في ذاته ومن أجلنا يبقى ويُمنَح لنا باستمرار في الإيمان وفي الأسرار.
في الليلة التي أُسلِم فيها… هذه الكلمات، في نظر الإنجيليين والقديس بولس، ليست فقط رواية تُروَى في الزمن. بل تلك الليلة كانت ليسوع وللرسل، ليلة القلب والروح، ليلة الخيانة والإنكار، الليلة التي بدا فيها وكأن كل شيء قد انتهى: اندفاعهم في السير مع المعلم والوعود التي سمعوها منه. في تلك الليلة التي أُسلِم فيها، بدا وكأن كل الأنوار قد انطفأت، وكأن ساعة الظلمات قد انتصرت. الليلة التي أزالها الله عن ابراهيم، هنا اكتملت حتى النهاية. الرعب والاضطراب ملآ قلب الرب، وملأ الخوف قلب الرسل. غلب عليهم النعاس والحزن والاستسلام، أو رأوا في السيف والعنف الطريقة الوحيدة للبقاء في تلك الليلة.
ولكن لم يكن الأمر هكذا ليسوع. سمعنا ما قرأنا: “أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزا. وشكر، ثم كسره وقال: “هذا هو جسدي، إنه من أجلكم .اصنعوا هذا لذكري“. وصنع مثل ذلك على الكأس بعد العشاء وقال: “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. كلما شربتم فاصنعوه لذكري” (١ قورنتس ١١: ٢٣– ٢٥). بالنسبة إلى يسوع، ساعة الإنكار والسقوط صارت ساعة الحب الأعظم. لا الهرب ولا النعاس ولا السيف، ولكن بذل الذات حتى النهاية، هذا هو جوابه. حيث توقفت الوعود وحل الرفض محل القبول، ظل هو واثقًا بوعد الملكوت. عندما زال كل أمل في النجاح، ظلَّ هو واثقًا بمشيئة الله، الذي وضع بين يديه كلّ قدرة حبه. الرسل خافوا واضطربوا، أما هو فأجاب بثقة في الآب لا حد لها. الرسل، لجأوا إلى السيف وإلى العنف وإلى الحسابات الاستراتيجية، وفضَّل بعضهم المال. أما يسوع فقدم خدمة الإخوة والمشاركة حتى الموت. تلك الليلة حوّلها هو إلى ليلة انتصر فيها الحب الذي يبذل نفسه ويغفر، وإلى ليلة العزاء الذي يشجع وينبّه، وإلى الكأس التي شربها حتى الثمالة، فأعَدَّ بها عيد الملكوت. وهكذا أصبحت الليلة الأخيرة مقدِّمة الفصح. لهذا، تلك الليلة، حفظتها الكنيسة في قلبها، بشرى لليلة التحرير. وأخذت تذكرها بالشكر كل يوم وكل سنة، لتجد نورا وشجاعة ونعمة وعزاء في مسيرتها. أنا اليوم، معكم، أريد أن أطلب إلى الرب يسوع المسيح أن يساعدنا على إعادة النظر معه في الليالي العديدة في حياتنا وفي خدمتنا في هذه الأرض المقدسة والصعبة، فنعتبر بها ونستعيد معنى الحياة والخدمة، ونجدّد الرؤية ونستعد للأيام المقبلة والخطوات التي سنتخذها. لا نحتاج إلى جهد كبير حتى نعرف أننا نحن أيضًا، مرارًا كثيرة، رأينا خدمتنا الكهنوتية وجهودنا كرعاة تبدو وكأنها في الظلام. صعوبات من الداخل ومن الخارج، صعوبات من ذاتنا أو من الجماعة التي نعيش معها، ومن الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تزداد سوءًا وتوتّرًا وعدم استقرار، والعنف الذي يخيف ويوقف الحياة والمشاريع، ويزداد شعورنا بأننا عاجزون وغرباء في أرضنا وبين الناس. ويزداد هرب العديد من العائلات المسيحية، وخوفنا أن نبقى وحدنا منعزلين. الأسباب عديدة في حياتنا التي تضعف الثقة وتبدل الأمل بالظلام. مثل التلاميذ في تلك الليلة، نحن أيضا تنتابنا تجربة الهرب والاستسلام، والغضب والعنف ويبدو لنا أن تلك الطريقة الوحيدة الممكنة في الزمن الصعب الذي أعطي لنا أن نعيش فيه. ولكن الله يعرض علينا طريقا مختلفة: “فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضا ما صنعت إليكم” (يوحنا ١٣: ١٥). لنقبل، ولندخل حتى النهاية في عمق ليالينا. يسوع لم ينزَّه عن الخوف بكل أشكاله: الخوف من سوء فهم الناس له والعزلة الناجمة عن ذلك، والخذلان، والخيانة، والتعب والألم في جسده ونفسه، حتى الموت. إدراكه أنه ابن الله لم يمنعه من اختبار ضعف الجسد وعنف التجربة، والمشاعر الطبيعية بالضيق والخذلان أمام مأساة الموت. ومع ذلك، فإن الموت، الذي هو ملخص كل مخاوف الإنسان، أصبح بفضل الطاعة للآب والحب لأصدقائه، مكان التحرير والحياة. نعم، هذا هو التناقض في الصليب. بالصليب، العجز والفشل يتحولان إلى ينبوع للأمل. لم ينتصر يسوع المسيح على الموت بالهرب من الموت، بل باجتياز الموت: تحمّل وطأته بحب، وكشف معناه إذ ربطه بثقته ورجائه بسر الآب.
واليوم يدعونا يسوع المسيح، بصوت الكنيسة، إلى تجديد مواعد رسامتنا الكهنوتية. وفيما يمنحنا من جديد في هذا الاحتفال زيت العزاء، وخبز الحياة، وكأس الخلاص، فهو يؤكد لنا، إن نحن ثبتنا فيه، بتقدمتنا لذاتنا وخدمتنا للإخوة، أننا نستطيع نحن أيضا أن نحوّل الزمن الحاضر إلى زمن قيامة وفرح، غدًا. في هذا المكان بصورة خاصة، حيث ظهر الحب أقوى من الموت، وحيث بدَّد نور المسيح القائم ظلمات القلب والروح، يقول لنا الرب، إننا إن ثبتنا وازددنا في المحبة وبذل الذات، وبذلنا أنفسنا حتى المغفرة، سنشارك منذ الآن في انتصاره الفصحي، انتصار حبة القمح التي يبدو أنها تموت، ولكنها في الحقيقة في فترة حمل وتكوين للثمر. رسالتنا في هذه الأرض، بين الصعاب التي نعرفها، إن عشناها بالإيمان والرجاء والمحبة، وبذلنا ذاتنا مجانًا وبلا حدود، سرنا في الطريق العملية لنصنع ما صنع الرب، فتتحقق القيامة لنا أيضا وللكنيسة. لا توجد طرق مختصرة للوصول إلى القيامة: الخيانة والسيف، والحِيَل أو التفاهمات البشرية تطوِّل الليل ولا تقصِّره. انتصار الحب لا يأتي إلا بعد ذبيحة الحب. الذي قام من الموت هو الذي صُلِب. إننا نُمسَح بزيت الموعوظين حتى لا نهرب في المعركة، ونُدهَن بزيت المرضى ونُرسَل للعزاء والشفاء، ونُمسَح بزيت الميرون لنكمِّل في العالم كهنوت المسيح. ومن ثم لا نريد ولا نقدر أن نسير في طرق مختلفة غير طريق الصلب المجيدة، حتى نبلغ حياة خصبة وخدمة جديدة.
وأرى أني أقدر أن أقول لجميعكم، ولكم خصوصًا الأساقفة المساعدين والكهنة، والإكليركيين، والرهبان والراهبات، الذين تشاركون معي عن كثب في الخدمة الرسولية لبناء هذه الكنيسة، ولكم أيها المؤمنون والمؤمنات باسم الرب يسوع، وأنتم الحجاج المتحدين في هذه الأيام المقدسة معنا في رجائنا وصلاتنا: تشجعوا. لا نسمح للخوف والاستسلام أن يثبط عزائمنا أو يوقف مسيرة الإنجيل في أرضنا. لنستمر بفرح في عطاء خبز الحياة للجميع. لنجتهد في أن نبني بيننا ومع الجميع علاقات أخوية وروابط شركة واتحاد. لا يوجد ليل ولا ظلام لا يستطيع الحب أن ينيره، ولا يوجد فشل لا يستطيع الصليب أن يحوّله، ولا يوجد جرح لا يستطيع الفصح أن يشفيه ويسير به إلى المجد. كما يقول الرسول: “إنه لقول صدق أننا إذا متنا معه حيينا معه، وإذا صبرنا ملكنا معه” (٢ طيموتاوس ٢: ١١– ١٢). وما يبدو لنا اليوم أنه علامات النهاية سوف يصير بقوة نعمته وبإيماننا، نبوءة لبدايات جديدة. كل عام وأنتم بخير، وقيامة مجيدة في الإيمان الذي يثق بكل شيء، والرجاء الذي يرجو كل شيء، والحب الذي يبذل كل شيء.
+ بييرباتيستا بيتسابالا
المدبر الرسولي