أحد القيامة المجيدة ٢٠١٧
العظة في كنيسة القيامة
أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء
المسيح قام، حقًّا قام.
بلغْنا يوم القيامة المجيدة، قيامة الربّ وقيامتنا. واليوم، مثل مريم المجدلية، ومثل الرسولين يوحنا وبطرس، جئنا نحن أيضًا إلى قبر يسوع المسيح لننحني أمام سرّ قيامته، ولنقبل الهبة الفائقة التي منحنا إيّاها، إذ بذل حياته من أجلنا.
في خلال هذا الأسبوع، احتفلنا وصلَّيْنا صلوات جميلة وقديمة، استعدنا بها ما عاشه يسوع المسيح في هذه الأماكن نفسها، ولا سيّما في هذا المكان، في هذا القبر الذي وضع فيه. والآن كل هذه الليتورجية الجميلة قاربت الانتهاء، وعلينا أن نسأل أنفسنا: ماذا بقي منها فينا في ذهننا وفي قلبنا، وما هو أثر تلك الأيام التي قضيناها هنا مع خبرة يسوع نفسه؟ للكثيرين منَّا الحاضرين هنا، قد نكون اعتدنا هذه الأيام. قد تكون أصبحت عادة، وتكرار صلوات وطقوس نعرفها. أمَّا للكثيرين من الحجّاج فهي بالعكس أمر جديد فيه اندهاش ومشاعر قويّة، وذكرى ثمينة يحملونها إلى بيوتهم، يحفظونها في قلوبهم ويشاركونها مع أهلهم ومعارفهم. جو الهرج والفرح في هذه الأيام، قد يكون فيه تعب، ولكن فيه كلّ الكنائس المسيحيّة احتفلت معًا في الوقت نفسه، في هذا المكان المقدّس، بالفصح، كلّ كنيسة بحسب تقاليدها. هذا الجوّ من الهرج والفرح خلق جوًّا استثنائيًّا للعيد. كلّ شيء هنا يقول لنا إنّ هنا أمرًا متميِّزًا خاصًّا، وفرحًا وفريدًا.
الفصح في القدس هو أيضًا هذه الخبرة الفريدة، بكلّ تأكيد. ولكن في القدس أيضاً، كما في كلّ مكان في العالم، نقف بضمائرنا أمام السرّ، الذي هو جوهر إيماننا. يقول لنا القديس بولس: “إن لَم يَكُنْ الـمَسِيحُ قَد قَامَ فَبِشَارَتُنَا بَاطِلَةٌ، وَإِيمَانُكُم بَاطِلٌ“(١ قورنتس ١٥: ١٤). اليوم، يسوع يطرح علينا السؤال الذي سمعناه قبل أيّام، والذي طرحه على مرتا: “أَنَا القِيَامَةُ وَالحَيَاة… أَتُؤمِنِينَ بِذَلِك“؟ (يوحنا ١١: ٢٥–٢٦).
ماذا صنعنا بهذا السرّ؟ ماذا بدَّل فينا وعيُنا أنَّ المـّسيح قام وهو حيٌّ لا يموت بعد الآن؟ ماذا بدَّل هذا السرُّ في حياتنا؟ سوف نقرأ بعد قليل، حول القبر المرمَّم والمجدَّد، أناجيل القيامة. أربع مرّات، في أربع أماكن مختلفة، بحسب الجهات الأربع، لنعلن أنّ البشارة بهذا الحدث الخارق انطلق إلى العالم كلِّه من هنا، من هذا المكان. من القدس بلغ كلَّ مكان. ولكن، هذا الذي نبشِّر به، بأيّ مقدار هو أمر نعيه ونعيشه؟
لربما تعوَّدنا على فرح القيامة، إلى حد أنّنا أصبحنا لا ندرك كم هو أمر مذهل، القبر الفارغ. يكفي أن نقول ذلك لإخوتنا غير المسيحيّين الذين نعيش معهم، لندرك أنّ هذا الكلام جنون، بحسب الفكر البشريّ. كيف يمكن الإيمان بأن الميت يقوم؟ ومع ذلك نحن نؤمن أنّه قام.
اليوم أيضًا يوجد أصحاب الفكر (راجع أعمال الرسل ١٧: ٣٢)، والمعارضون من كلّ نوع لبشارة القيامة، ومع ذلك فهم يصغون إلينا نحن المسيحيّين ويقبلوننا بل يطلبوننا، ويقدِّرون ويرغبون في أعمالنا ومؤسَّساتنا. عملنا وخدمتنا هي مصدر عزاء ومشاركة، ودعوتنا إلى التضامن مع كلّ إنسان، وطلبنا للسلام، كلّ ذلك يشاركوننا فيه ويقبلونه بفرح. ولكن في الوقت نفسه، أنَّ المسيح قام من بين الأموات فهو أمر لم يدرَك بعد ولا هو مقبول، أو هو أمرٌ غير مهم، وقد يكون للبعض أمرًا مزعجًا.
ومع ذلك هذا هو إيماننا. هذه هي بشارتنا: “إنَّه لَيسَ هُنَا. فَقَد قَامَ كَمَا قَال. تَعَالَيَا فَانظُرَا الـمَكَانَ الَّذِي كَانَ قَد وُضِعَ فِيهِ” (متى ٢٨: ٦). “لَا تَرتَعِبْنَ. أَنتُنَّ تَطلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الـمَصلُوب. إنَّهُ قَامَ وَلَيسَ هُنَا. وَهَذَا هُوَ الـمّكَانُ الَّذِي كَانُوا قَد وَضَعُوهُ فِيهِ” (مرقس ١٦: ٦).
سِرٌّ لا يقدر عقلنا أن يدركه ولا أن يشرحه. يمكن فقط أن نستقبله ونحفظه في قلبنا، بثقة وحبّ. هي خبرة حياة. “حِينَئِذٍ دَخَلَ التِّلمِيذُ الآخَرُ وَقَد وَصَلَ قَبلَهُ إلَى القَبرِ فَرَأَى وَآمَن” (يوحنا ٢٠: ٨). الفعل “رأى“، في إنجيل يوحنا، يعني اختبر. هي رؤية تشارك فيها كلّ الحواس، وليس فقط البصر. رؤية بالقلب. وبالقلب المليء بالثقة، وركوعًا أمام سرِّ هذا القبر الفارغ، نقول مع الإنجيلي مرقس: “آمَنْتُ، يا ربّ، فَشَدِّدْ إيمَانِي الضَّعِيف” (مرقس ٩: ٢٤). وهنا، نؤكِّد أنَّنا، بالرغم من حدودنا وتردُّداتنا، نعم، نؤمن.
نؤمن أنَّ الفصح هو دخول الله الأخير والنهائي في التاريخ. دخولٌ للجميع، غير متوقَّع ومفاجئ. نؤمن أنَّه خلَّصنا من العدم، ومن العبوديّة، ومن المنفى، وكان على الله أن يخلِّصنا من عدُوٍّ أخير هو الموت أي الخطيئة. نؤمن اليوم ونبشِّر أنّ الموت هو كلّ مكان في الحياة يغيب الله عنه، هو كلّ مكان تنقطع فيه العلاقة بين الإنسان وبين الله. هذا هو الفشل في الحياة.
ليست الحياة بلا معنى عندما ينقصنا شيء ما، أو عندما نحسّ بالألم أو التعب، ولكن عندما يغيب الله عنّا، عندما نصبح وحدنا، من دون الله. الموت هو حيث الله ليس أبًا، حيث الله ليس ينبوع حياة، حيث لا نقدر أن نجعل له مكانًا.
اليوم، نحن نؤمن ونبشّر أن الله أبٌ وجعل له مكانًا في حياة كلّ واحد منّا، وللأبد. القيامة هي تدفُّق حياة الله فينا.
نحن نؤمن أنّه لا يوجد بعد اليوم مكان لا يوجد فيه الآب، حتى حيث يوجد الموت، بل ولا سيّما حيث يوجد الموت. الموت لم يقدر أن يمسك بيسوع، لأنّ يسوع للآب، لأنّ علاقته بالآب أقوى من كلّ شيء، وبقيت حيّة حتى في الموت.
اللفائف والكفن لا تقيِّد يسوع. إنَّها ملفوفة على حدة، لأنّ الموت لا “يلُفُّ” يسوع، بل تملأه الحياة التي أعطاه إيّاها الآب. ولهذا، ذهب التلاميذ اليوم إلى القبر، فلم يجدوا شيئًا، إلا اللفائف التي أصبحت بلا فائدة (يوحنا ٢٠: ٦–٧). في إنجيل القديس يوحنا، لا نجد إعلاناً صريحًا عن الآلام والقيامة، كما في سائر الأناجيل الثلاثة. ولكن، كان يسوع قد قال أكثر من مرّة، إنّ مكان حياته هو الآب، وإنَّه منه أتى وإليه يعود، وإن المرحلة الأخيرة في حياته لن تكون القبر، ولكن الحياة مع الآب. بهذا التأكيد دخل يسوع الموت. دخل واثقًا، بدأ المأساة واثقًا. رأيناه في الجسمانية وعلى الصليب يمرُّ وفي نفسه عراك شديد. ولكنّه لم ييأس قط لمـَّا لجأ إلى الآب. علاقة الابن بالآب ظلَّت راسخة، حتى عندما أسلمه يهوذا وتُرِكَ وحده، حتى عندما زالت عنه الحياة، حتى عندما بدا أنّ الآب غائب عنه، بقي يسوع واثقًا، ووبذل نفسه إلى أقصى حدود البذل، وأطاع لمشيئة الآب، ووفَّق بين حياته وإرادته وبين إرادة الآب.
لمـّا خطئ الإنسان، ظنَّ أن الله سيعاقبه بالموت وسيحرمه الحياة. أمّا يسوع فآمن أنّ الآب سيعطيه الحياة لا الموت.
الموت ليسوع يعني أنّه وضع حياته بين يدي الآب. لم يعطها للعدم، لم يطرحها عنه، لم يحتقرها، بل أعطاها كاملةً إلى الذي منحه إيّاها، وهو مصدرها اللامتناهي، وحارسها ومعيدها إليه.
اليوم، نحن نقول نؤمن. نؤمن بأن المسيح مات ثم قام.
ما معنى هذا الإيمان لنا، نحن المؤمنين البسطاء في هذه الأيام؟ ماذا يعني لنا الفصح؟
يعني لنا أنّ هذه العلاقة الكاملة بين الآب والابن، منذ صباح الفصح، هي أيضاً علاقة بيننا وبين الآب. قبل القيامة لم يكن الأمر ممكنًا، لأنّ الموت كان ما زال مكانًا لم تدخله الثقة بالآب. كان الإنسان وحده فيه. الآن نحن مملؤون بالحياة، بحياة الآب، لأنّ يسوع بإعطائنا الروح، أقام فينا العلاقة نفسها بينه وبين الآب.
إذًا، عمليًّا، بعد اليوم، لا يوجد مكان في حياتنا، في تاريخنا، لا يمكن أن يكون بيتًا لله، لا يمكن أن يكون مكان لقاء مع الله. لا توجد أيّة مساحة في حياة كلّ واحد منَّا، لا يمكن لله ألَّا يكون حاضرًا فيها. خلاصنا هو هذه العلاقة، أن نكون أبناء الله.
هذا الواقع، هذه الخبرة الجديدة لا تعني أننا لن نختبر الشدة، والألم، والظلام. كلّ هذا يبقى، ولكنّه لم يعُدْ حكمًا علينا. في كلّ هذه الحالات، يمكن أن تتترسَّخ الثقة بالله الذي هو حاضر فينا، وهو يقدر أن يبدع الحياة في موتنا. في حالات الشدة والألم، الله يمنحنا الحياة لا الموت.
لنفكِّرْ لحظات في كلّ حالات الموت التي تحيط بنا. يكفي أن ننظر حولنا، فنجد ما يملأنا بالهموم ويجعلنا نشعر أنّ الموت يسيطر علينا، وانتصاراته وشوكته (راجع ١قورنتس ١٥: ٥٥). لا نذهب بعيدا، لنفكّر في الأحوال الرهيبة التي توجد فيها الشعوب المجاورة لنا سوريا والعراق واليمن… الحياة التي نحتفل بها اليوم، تداس هناك وتُنتهَك بقسوة ووحشية. تُحتَقر كلّ يوم وتخضع للمذلّة.
اسمحوا لي أن أذكر إخواننا الأقباط، الذين قتلوا قبل أسبوع بشكل فظيع في طنطا والإسكندريّة في مصر. في الوقت الحاضر يبدو أن هناك رغبة بالموت تسيطر على الكثيرين في بلادنا. في هذه الظروف، يبدو أن الكراهية والازدراء في العلاقات الإجتماعيّة والدينيّة هما سيدا الموقف، بينما أصبح الاحترام الإنساني والحس الديني والمدني مجرد كلمات خاليّة من المعنى: إن الطرف الآخر هو العدو الذي يجب تدميره، والذي لا مكان له. قبل موت الجسد، يوجد موت أخلاقي وروحي. الويل لنا إن استسلمنا لذلك! ولكن في هذه الظروف، إننا نرى أيضاً بكل امتنان قوة الحياة: حقيقة أن إخواننا المسيحيين لم تسيطر عليهم هذه الرغبة في الموت، فلقد بقوا منفتحين للتعاون مع الجميع بكل ثقة. لم تصدر عنهم أيّة إساءة أو كراهيّة أو عمل عنف بل رغبة حازمة في إحقاق العدل. لم يدمّر موت هؤلاء الشهداء قوّة حياة هذه الجماعة! لقد تم فصحهم في أحد الشعانين!
وهنا أيضًا، في الأرض المقدّسة، ظلال الموت تخيّم علينا: الجراح في جغرافية البلد وفي الإنسان في شعوبنا كثيرة لا تحصى. العدل والسلام كلمات أصبحت شعارات مفرغة من كلّ مصداقية. الكلام على الأمل يبدو كلامًا لا معنى له، وبعيدًا عن الواقع. في كلّ مكان وحال يوجد خوف وعدم ثقة، بين المؤمنين في الديانات المختلفة، وبين الجماعات المختلفة، وفي داخل جماعاتنا وعائلاتنا نرى انقسامات مستمرّة من كلّ نوع، بسبب الخوف من الآخر، الخوف من أن نخسر شيئًا، الخوف من الموت، من بذل الحياة. وبهذا الموقف نسلم أنفسنا بين أيدي الموت وسلطانه.
ولكن، إن آمنًّا بالقيامة، إن آمنّا بقوّة الروح، وبقوّة الكلمة، إنَ وضعنا كلّ هذه الأحوال بين يديه، إن جعلناها صلاة، صرخة أمامه تعالى، كلّ هذه الحالات تصبح طريق حياة.
خبرة القيامة لا يمكن أن نفهمها إلا بالمشاركة في الخبرة نفسها، إلا إن أصبحت حياة نعيشها، ونختبرها ونبشِّر بها.
في القراءة الثانية لهذا اليوم من الرسالة إلى أهل قولوسي، في الفصل الثالث الآية الثانية، عبارة تصعب ترجمتها، أحسنها الترجمة اللاتينية، التي تقول: “تذوَّقوا الأمور التي في العلى“.
تذوّقوا أي اعرفوا بالعمق وبالوجدان الأمور التي في العلى. علينا أن نتجذَّر، نعم، هنا في الأرض، مندمجين ومتجسِّدين بصورة كاملة، نحِبُّ حبًّا شديدًا هذا العالم الذي أوكلنا الله به والإنسان الذي يسكنه، ولكن، في الوقت نفسه، يجب أن نجد الوقت لمذاق آخر، ينجم عن القيامة، عن واقع ليس من الموت، بل واقع حرية لا يمكن لأحد أن ينتزعها منّا. واقع من ينتسب إلى الآب أبي الحياة، الذي يقف الموت أمامه عاجزًا.
لا ننطوي على ذاتنا ولا ننغلق في مخاوفنا. لا نسمح للموت ولأعوانه أن يرعبونا: هذا إنكار للحياة ولإيماننا بالقيامة.
ولا نتوقَّفْ كذلك عند تكريم هذا القبر الفارغ. القيامة هي بشارة فرح جديد يتدفَّق في العالم، فرح لا يمكن حصره في هذا المكان. من هنا يجب أن يبلغ الجميع.
“اذهَبَا وَقُولَا لِلتَّلَامِيذِ وَلِبُطرُسَ أنَّهُ يَتَقَدَّمُكُم…” (مرقس ١٦: ٧)
“إلى أين؟ إلى كلّ مكان. في الجليل وعلى الجبل، وفي مكان العشاء وعلى طريق عماوس. على شاطئ البحيرة وفي البرّيّة، وفي كلِّ مكان يضرب فيها الإنسان خيمته، ويكسر خبزه، ويبني مدينته، ويبكي وينشد، ويتنهّد ويلعن. هو يتقدمكم…” (دون بريمو كاتسولاري).
هذه هي أمنيتي الصادقة لجميعكم. ليكن الفصح الذي نحتفل به اليوم في هذه الإفخارستيا فصحًا وقيامة نحتفل بها ونعيشها في كلّ يوم.
+ بييرباتيستا
المدبر الرسولي