الناصرة – ترأس المطران بييرباتيستا بيتسابالا، المدبر الرسولي للبطريركية اللاتينية الاثنين ٩ نيسان ٢٠١٨، الذبيحة الإلهية في بازيليك البشارة بمناسبة عيد بشارة العذراء مريم بمشاركة المطارنة والكهنة وبحضور حشد كبير من المؤمنين.
وعشية الاحتفال بهذا العيد، استقبلت الجماعات الرهبانية وأبناء الرعية المدبر الرسولي في مركز القديس أنطون قبل التوجه في مسيرة إلى البازيليك حيث كان المؤمنون في انتظاره في مغارة البشارة لإقامة خدمة صلاة الغروب.
نضع بين أيديكم عظة المدبر الرسولي التي ألقاها الأب حنا كلداني باللغة العربية:
عظة عيد البشارة الناصرة، ٩ نيسان ٢٠١٨
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
سلام المسيح معكم جميعًا. وكل عام وأنتم بخير.
نحتفل في هذا العام بعيد البشارة في غير تاريخه المعتاد، نحتفل به في الزمن الفصحي. وفي هذه المصادفة دلالة خاصة، لكي نفهم معنى كلمة الله لنا.
نحتفل عادة بهذا العيد في زمن الصوم. وأما في هذا العام ففي الزمن الفصحي، في ثمانية العيد. قبل ثمانية أيام احتفلنا بعيد القيامة المجيدة. واليوم نحتفل بعيد تجسد كلمة الله. والهدف من التجسد هو بلوغ القيامة. ففي هذا العام، نحتفل في الزمن نفسه بالحدثين الرئيسين في تاريخ الخلاص، والمرتبطين الواحد بالآخر: وهما التجسد والقيامة.
الإنجيل الذي قرأناه اليوم يعيدنا إلى سفر التكوين. نعرف كلُّنا رواية الخلق. خلق الله الإنسان ليكون سعيدًا، ولكنه طلب منه أن يكون أمينًا. ولم يكن أمينًا، ففضّل أن يستمع إلى صوت مختلف عن صوت الله، صوت الحية، وأن يبتعد عن الله، فوقع في العصيان والخطيئة. ولما بحث الله عنه في الفردوس، تهرَّب الإنسان من وجه الله. وكان أول سؤال من الله للإنسان، في الكتاب المقدس: “أين انت“؟ (تكوين ٣: ٩). قبل الخطيئة كان الله رفيقًا للإنسان في الجنة التي خلقها الله له. كان الله “يتمشّى في الجنة” حيث وضع الإنسان. (فسمعا وقع خطى الرب الإله وهو يتمشى في الجنة عند نسيم النهار) (تكوين ٣: ٨). هذا أسلوب في رواية الخلق للتعبير عن علاقة الله مع الإنسان. ولكن الخطيئة قطعت هذه العلاقة. لم يعد الله يجد الإنسان. وصار الإنسان يختبئ من وجه الله لأنه خائف، وفقد الثقة بالله خالقه. قال: “إني سمعت وقع خطاك في الجنة فخفت لأني عريان فاختبأت” (تكوين ٣: ١٠).
هذا هو تاريخ الخلاص: هو سعيٌ دائم من قبل الله لإعادة الثقة التي فُقِدت، لإعادة العلاقة بين الله والإنسان. هذا ما يريده الله: أن يعيد الثقة، والأمانة للعهد، وأن يخلق من جديد العلاقة بين الله والإنسان.
إنجيل اليوم هو استجابة لهذه الإرادة الإلهية التي تريد إعادة الثقة وتجديد العلاقة مع الإنسان. مريم العذراء لا تختبئ مثل آدم وحواء في الجنة، بل سمعت صوت الله وأجابته. لما بحث الله عنها، وأرسل الملاك إليها، لم تخَفْ ولم تختبئ. نعم، اضطربت، وأحست بالخوف أمام المسافة الشاسعة بينها وبين الله. ولكنها لم تتوقف عند هذا، ولم يمنعها هذا الشعور من سماع صوت الله. ولو أنها رأت، من حيث الاعتبارات البشرية، أن طلب الله صعب. وفي الواقع، من كان يستطيع أن يدرك مثل هذا السر؟ يوسف، من جهته، كان على وشك “تخليتها“، ولو فعل لأثار الشكوك الكثيرة. العقبات الاجتماعية والعائلية التي تقف أمام طلب الله كانت كثيرة.
ولكن مريم، سلمت أمرها لله، وقبلت الحقيقة التي قدمها الله لها. قبلت بما قال الله لها. ولم تخَفْ: “لا تخافي لأنك وجدت حظوة عند الله” (لوقا ١: ٣٠). الخوف ثمرة الخطيئة، والثقة ثمرة النعمة. هذا هو الأمر الجديد، والخلق الجديد الذي صنعه الله في مريم: امرأة استطاعت من جديد أن تثق بالله.
ولهذا قالت مريم: “نعم“. قالت “نعم” لِمَا خُلِقَ له الإنسان منذ البدء، خلقه الله ليكون مكانًا للكلمة، ليكون الأرض التي تستقبل كلمة الله.
العيد اليوم يقول لنا إن المرور من الخوف إلى الثقة، من العزلة إلى العلاقة مع الله، إنما هو أمر ممكن، ولكن بالنعمة فقط. ليس ممكنًا بجهد بشريّ فقط، أيًّا كان. لا يمكن أن تعود علاقة الإنسان مع الله، إلا لأن الله نفسه اختار إنسانا، امرأة، وجعلها قادرة من جديد على إعادة الارتباط به، ارتباطًا محرَّرًا من نتائج الخطيئة. اختار الله خليقة، امرأة، قادرة من جديد، بكل بساطة، أن تثق بالله.
وبالفصح، كمَّل يسوع العمل الذي بدأ يوم قالت مريم لله “نعم“. بطاعته للآب أعاد وأصلح، مرة وللأبد، الخليقة الجديدة، ومنح العالم حياة جديدة.
إنجيل اليوم إذًا يذكِّرنا بجواب مريم إذ قالت “نعم” للإيمان وللثقة، حتى للأمر الذي كان يبدو مستحيلا في نظر الإنسان. اضطربت، ولكنها قالت: نعم. رأت الصعاب الكثيرة أمامها، ولكنها قالت: نعم، نعم للحياة، ومن دون خوف.
هذه علامات حياة مهمّة لنا جميعًا، ولا سيما لعائلاتنا. في هذه السنة، بدأت كنيستنا مسيرة مع العائلة المسيحية، تساعدها وتفكِّر معها في حياة العائلة المسيحية. وبداية المسيرة، من هنا، من الناصرة، ومن إنجيل الناصرة.
إنجيل اليوم يقول لنا إن العلاقات في كل عائلة، وفي كل جماعة مؤمنة، تُبنَى على الثقة أولا. لا يمكن أن توجد حياة عائلية من دون ثقة. ويقول لنا الإنجيل أيضًا إننا علينا أن نقول لله، كل يوم، “نعم“. وقول “نعم” لله يعني قول “نعم” للأخ والأخت، والزوج والزوجة والأبناء والوالدين. ونقول “نعم“، بالرغم من كل المخاوف البشرية.
لم تهتم مريم لِمَا سيفكّر الآخرون فيه، ولم تخَفْ أن تدخل في مشروع لم تعرف فيه شيئًا ولا كيف يكون مستقبله. وهذا الأمر نفسه ينطبق على كل عائلة. عندما تنشأ عائلة لا أحد يعرف كيف يكون مستقبل هذه العائلة الجديدة. ولكن يثق الواحد بالآخر، وثقتهما مبنيّة على حب متبادل: هذا هو أساس المستقبل.
ومريم العذراء تعلِّمنا أن نقول “نعم“، مهما حصل، بثقة غير محدودة، لأن ثقتنا بالله. لم يكن الأمر لها سهلًا. فقد سمعت بعد قليل سمعان الشيخ يقول لها: “وأنت سنيفذ سيف في نفسك” (لوقا ٢: ٣٥). ومع ذلك، بقيت أمينة لِمَا قالت منذ البداية، بقيت أمينة لقولها لله: نعم.
هذا تعليم لنا نحن اليوم أيضًا. أن نتعلَّم أن نثق يعني ألّا نجعل مساعينا أو مساعي غيرنا في الحياة مِلكًا لنا، يعني ألّا نضع كلّ شيء تحت سيطرتنا، ألّا نسيطر على العلاقات الإنسانية والعائلية. … مريم قالت نعم، ثم تركت لله أن يتمّم خطته فيها، لم تأخذ هي مصيرها بيدها، إنما قبلت أن تكون جزءًا فقط في خطة الله. مريم تعلِّمنا إذًا، أن نتعلَّم أن نعمل من غير أن نسيطر نحن، ونتعلّم أن نساهم في مشاريع ليست لنا، في مشاريع مَن نُحبُّهم، من غير أن نسيطر عليها أو عليهم. مريم تعلّمنا أن نكون أحرارًا، ولا نَستَعبِد أحدًا. مع العلم أنها عرفت أيضًا المحن والآلام الكثيرة، وبقيت دائمًا أمينة.
لا شيء من ذلك كلّه ممكن بمحض قوانا البشرية. ولكن الإنجيل قال لنا إنّ كل شيء ممكن لدى الله (١: ٣٧). تأمَّلنا في كلمة الله ورأينا كيف يمكن المرور من الخوف إلى الثقة، ومن العزلة إلى العلاقة والعيش معًا، مع الله، ومع الناس. ورأينا أن ذلك ممكن فقط بالنعمة. وهذا صحيح في حياة عائلاتنا. وحدنا، من دون نعمة الله، لا يمكن أن نبني العائلة، ولا الثقة التي هي أساس العائلة. وحدنا، لا يمكن أن نستمد قوة المغفرة التي منحَنا إياها الله أولا، ولا يمكن أن تولد في قلوبنا الثقة بالغير فنعرف أن نتعاون معهم.
يجب إذًا أن نصلي، وأن نبقى متمسّكين بنعمة الله، وأن نسعى دائما ونسأله أن يُبقِيَ علاقتنا معه متينة. لنسأل الله نعمة القوة والأمانة لخطة حبِّه لكل واحد منا، لنسأله أن يمنحنا القدرة على أن نغفر، وعلى ألّا نخاف، وأن نحِبّ بعضُنا بعضًا كما أحبَّنا هو.
لتشفع بنا جميعًا مريم العذراء القديسة، ولْتمنَحْ جميع عائلاتنا الفرح والمحبة والاندفاع لنقول لله، اليوم أيضًا، مرة ثانية، وبثقة: نعم ، ونجدّد حبَّنا لمن نحبّهم ولهم أيضًا نقول: نعم.
كل عام وأنتم بخير.
+بييرباتيستا بيتسابالا
المدبر الرسولي