وسط أنقاض الحرب ووجع الأيام، تواصل رعية العائلة المقدسة للاتين في غزة صمودها، شاهدةً حيّة على الإيمان والثبات المسيحي. وقد شكّل حضور راعيهم بينهم مصدر عزاء وقوة، إذ قام صباح يوم الجمعة 18 تموز 2025، غبطة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، وغبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث، بطريرك القدس للروم الأرثوذكس، بزيارة تضامنية مشتركة إلى غزة على رأس وفد كنسي، حاملين رسالة شركة رعوية من كنائس الأرض المقدسة، ومؤكدين قربهم الروحي والإنساني من أبناء قطاع غزة.
لطالما حرص الكاردينال بييرباتيستا على زيارة رعية العائلة المقدسة في غزة مرتين سنويًا. أما هذه الزيارة الأخيرة، فشكّلت بحد ذاتها معجزة وباب رجاء وسط النزاع القائم، إذ أقام غبطته بين أبناء الرعية لثلاثة أيام، تابع خلالها عن كثب احتياجاتهم الروحية والمعيشية، وسعى جاهدًا للاستجابة لها.
خلال هذه الأيام، شارك غبطته أبناء الرعية في صلواتهم، وترأس القداس الإلهي اليومي حتى لحظة مغادرته القطاع، وقدّم التعزية للضحايا والمجروحين، واستمع إلى أبناء رعيته وواساهم بحضوره الأبوي العميق. كما قام بجولة تفقدية لمباني البطريركية، ومستشفى الكاريتاس، والمناطق المجاورة لها.
"أنتم لستم وحدكم"
في قداس الأحد، عبّر غبطته في عظته عن عمق التضامن الكنسي مع غزة، مؤكدًا أن وجوده المشترك مع البطريرك ثيوفيلوس يحمل "دلالة عميقة، إذ يُعبّر عن وحدة الكنيسة وتضامن جميع كنائس العالم معكم". وشدد على أن الكنيسة لا تُحصر اهتمامها بالمسيحيين فقط، بل هي منفتحة على كل إنسان: "قلوبنا منفتحة على الجميع، وهذه نقطة جوهرية يجب التشديد عليها.. نحن ممتنون لما استطعنا أن نُقدّمه لكم هنا، لكننا لا نُخفي قلقنا مما يحدث في سائر أنحاء غزة. أنتم لستم منسيّين. أنتم في قلب الكنيسة الجامعة، وفي صلوات جميع المسيحيين حول العالم".
وفي تأمله للقراءة من سفر التكوين التي تروي زيارة الله لإبراهيم في خيمته، رأى غبطته في خيام غزة اليوم صدىً لهذا اللقاء الإلهي: "تذكّرت ما رأيته من خيام منتشرة على الطرقات… أرى أن الله قد زاركم بالفعل. أراه حاضرًا في وجوهكم، في حياة كثيرين منكم. ففي هذا البحر من الموت والدمار، لا تزال الحياة موجودة".
ورغم قسوة الواقع، جدد غبطته الرجاء بقوة الإيمان، قائلًا: "نعم، تضررتم، ولكن الحياة ما زالت موجودة… في كل مكان فيه شخص مستعد أن يضحي بحياته من أجل الآخرين، هناك يكون حضور الله. نعم، الشيطان قوي، ولكن لا يستطيع أن يُطفئ الحياة النابضة فينا". وتابع بدعوة أبناء الرعية إلى الثبات وعدم التراجع: "ينبغي أن نثبت ونبقى أقوياء، لنُواصل حمل حضور حيّ في هذا المكان".
وانطلاقًا من إنجيل الأحد: زيارة مريم ومرتا، شدد على أهمية الموازنة بين العمل والتأمل: "نحن محاطون بحالة طوارئ. هناك الكثير من الأمور التي يجب أن ننجزها، كثيرة جدًا، ونحن وحدنا لا يمكننا أن نفعل كل شيء. لكن لا يجب أن نتحوّل إلى مرثا. لا يجب أن نسمح للأمور الخارجية أن تُقيد قراراتنا. ما يجب أن يُوجّه قراراتنا هو محبة الله فينا. علينا أن نستمع له أولًا. وإذا أصغينا لصوته، سنعمل… لكن بتصرف سليم".
وفي ختام عظته، عبّر الكاردينال عن امتنانه العميق لأبناء الرعية في غزة، قائلاً: "كل مرة أعود فيها من هنا، أعود إلى بيتي وأنا ممتلئ أكثر بكثير مما أعطيتكم… أنا أنال منكم أكثر بكثير مما أقدّمه".
من روما: صوت البابا لاوُن الرابع عشر يدوي من أجل غزة
منذ بداية حبريته، لم يتوقف البابا لاوُن الرابع عشر عن مناشدة السلام ووقف إطلاق النار في الأرض المقدسة. وفي مكالمة هاتفية أجراها مؤخرًا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، عبّر قداسته عن "حزنه العميق وقلقه الشديد" حيال الاعتداء على كنيسة العائلة المقدسة، داعيًا إلى "حماية جميع أماكن العبادة واحترام القانون الدولي الإنساني".
كما أجرى قداسته اتصالًا هاتفيًا بالكاردينال بييرباتيستا أثناء زيارته إلى غزة، أعرب فيه عن "قربه، واهتمامه، وصلاته، ودعمه، ورغبته في القيام بكل ما هو ممكن من أجل تحقيق ليس فقط وقف إطلاق النار، بل أيضًا إنهاء هذه المأساة".
وخلال كلمته في صلاة التبشير الملائكي يوم الأحد 20 تموز، قال البابا بصوت مؤثر: "أُعرب عن ألمي العميق لهجوم الجيش الإسرائيليّ على رعيّة العائلة المقدّسة الكاثوليكيّة في مدينة غزّة... أُصلّي من أجل الضّحايا... وأنا قريبٌ بشكل خاص من عائلاتهم ومن جميع أبناء الرّعيّة".
وتابع: "أدعو مرّة أخرى إلى وضع حدّ فوري لهمجيّة الحرب والتوصّل إلى حلّ سلميّ للصّراع". وختم قداسته بالقول: "إلى مسيحيّينا الأحبّاء في الشّرق الأوسط أقول: أنتم في قلب البابا وكلّ الكنيسة. شكرًا على شهادة إيمانكم... سيِّدتنا مريم العذراء، سيِّدة الشّرق، لتحفظكم دائمًا ولترافق العالم نحو فجر السّلام".
رعية العائلة المقدسة: منارة رجاء في قلب غزة
تأسست رعية العائلة المقدسة عام 1974، وهي الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في قطاع غزة، وتخدم جماعة مسيحية لا يتجاوز عددها الألف، لكنها متمسكة بإيمانها، متجذرة في رجائها، وشاهدة للإنجيل وسط الألم.
لم تعد الكنيسة فقط مكانًا للعبادة، بل أصبحت بيتًا وملجأ وركيزة للرجاء. ورغم الدمار والتهجير، تواصل الرعية الاحتفال بالأسرار المقدسة وفتح أبوابها للجميع. وفي بيان حديث، أكدت البطريركية اللاتينية: "إن هذه الجماعة، رغم صغر عددها، عظيمة في إيمانها". وقد بدأت تساعية صلاة من أجل السلام، بدعم من مؤمنين كاثوليك حول العالم، توحّد الأصوات من غزة إلى روما، في صلاة جماعية من أجل إحلال العدال والسلام.