السيامة الأسقفية
لسيادة المــطران برونو فاريانو
نيقوسيا، ١٦ آذار ٢٠٢٤
(أشعيا ٦١: ١-٣؛ ١بطرس ٥: ١-٤؛ متى ٢٠: ٢٥-٢٨)
الإخوة والأخوات الأعزاء،
سلام الرب معكم!
(تحيات....)
نحن هنا في هذا المكان الخاص لحدث خاص، هو سيامة أسقفٍ لاتيني لخدمة جزيرة قبرص. آخر أسقف لاتيني مقيم في الجزيرة تُوُفِّيَ قبل ٣٤٠ سنة بالضبط. فيمكننا أن نقول إن ما نعيشه اليوم هو لحظة تاريخية لكنيستنا وللبطريركية اللاتينية وللجميع أيضاً. إنها لحظة احتفال، لحظة جميلة في الكنيسة، وآمل أن تساعدنا جميعًا على تعزيز إحساسنا بالجماعة والوحدة.
لسنا هنا لاستعادة مجد قديم. فليس هذا القصد من هذا الاحتفال. صحيح أنه يجب ألا ننسى (ملاحظة: "لا يجب" تعني يجوز، غير واجب، إذن جائز – أما العبارة "يجب ألا ننسي = non dobbiamo، فتعني فقط الوجوب) تاريخنا أبدًا، لكننا لسنا هنا الآن لنحتفل به، ولا لإعادة بناء القصور أو القلاع، من أي نوع كان. لسنا هنا للتعبير عن مواقف سلطة أو مجد. نحن هنا جماعة مسيحية صغيرة في الكنيسة الكاثوليكية، في إطار ديني أوسع، هو بصورة خاصة الكنيسة الأرثوذكسية، وليس هذا فقط، بل نريد التعاون معها بروح من الانسجام والاحترام، ونحن دائمًا شاكرون لمودتها. إننا معجبون حقًا بروح الشركة والتعاون بين مختلف الجماعات الدينية في قبرص، ولا سيما مع إخوتنا الموارنة والجماعات الأخرى، وحضور الجميع اليوم هنا في هذا الاحتفال يشهد على العلاقة الجميلة القائمة بيننا.
الأب برونو العزيز، إن قرار إقامة أسقف لاتيني مجدداً في قبرص، والروح الذي يجب أن يرافقك، ليس روح إصلاح واستعادة الماضي، بل روح الخدمة.
وهذا ما يشير إليه بوضوح، المقطع الإنجيلي الذي اخترته: "فلا يَكُنْ هذا فيكُم، بل مَن أَرادَ أَن يكونَ كبيراً فيكُم، فَلْيَكُنْ لَكم خادِماً. ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكُم، فَلْيَكُنْ لَكم عَبداً: هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس (متى ٢٠: ٢٦-٢٨).
إن التحديات الرعوية الجديدة التي ملأت الحياة في قبرص أيضًا، منذ بضع سنوات، تتطلب حضورًا كنسيًا قويًا بشكل متزايد، وخدمة رعوية مختلفة ومزيدًا من الشجاعة التي تقدمها لمؤمنينا الموجودين في شتى أنحاء الجزيرة، وقد يكونون مرارًا في أوضاع اجتماعية هشة للغاية. والواقع هنا كما هو الحال في سائر مناطق أبرشيتنا، جماعاتنا تزداد تعددًا وتتكوّن من مؤمنين قادمين من ثقافات ولغات مختلفة. والأوضاع الاجتماعية والسياسية تزداد تعقيدًا، وكل هذا يتطلب اهتمامًا جديدًا وخدمة مخلصة وإصغاء صادقًا. وفي الوقت نفسه، يجب ألا نهمل مؤمنينا الأصليين، الذين يرتادون كنائسنا منذ أجيال.
باختصار، يجب على الكنيسة الكاثوليكية في قبرص، مثل سائر أقسام الأبرشية في بطريركيتنا اللاتينية، أن تتعامل أيضًا مع الجراح العميقة التي خلَّفَتْها الصراعات السياسية التي يبدو أنه لا مخرج لها، ووصول مؤمنين جدد مع مشاكل اجتماعية شتى من جميع أنحاء العالم. العزيز الأب برونو، هذه هي الكنيسة التي يُطلب منك اليوم أن تضع نفسك في خدمتها. لا شيء فيها كبير أو باهر. لن تجد أي تعبير عن القوة. في الواقع، ستشعر مرارًا بالعجز في مواجهة العديد من الطلبات التي تأتيك. وهذا مهم وضروري، لأنك ستتعلم هكذا أن تسلم كل شيء لله، في الصلاة، في تواضع الخدمة، في طلب المساعدة، ولا سيما من الكهنة، لإيجاد معاونين لك في الخدمة، وفي الاتكال على الآخرين، كما هم، دون أن تتوقع منهم أن يكونوا كما تريد. هذه هي الطريقة الوحيدة لتسلم حياتك لله.
يجب ألا تقع في تجربة إرادة حل جميع المشاكل التي تصل إليك، سواء كانت اجتماعية أم غير ذلك إلا أنه من الضروري أن تستمع وتدعم حاجات الفقراء. وتذكّر ما قاله لنا يسوع: "أَمَّا الفُقَراء فهُم عِندَكم دائماً أَبداً، وأَمَّا أَنا فلَستُ عِندَكم دائماً أَبداً". (متى ٢٦: ١١) ليكن همك الأول أن تكون قريبًا من الجميع (راجع لوقا ١٠: ٣٦)، وأن تدعم احتياجات الجميع، قدر الإمكان، عالماً بأن مهمتك الأولى هي أن تكون على صورة الراعي الصالح، وأن تقود الجميع إلى اللقاء مع المسيح القائم من بين الأموات، الراعي الصالح الأوحد والحقيقي. عليك أن تُذكِّر جماعاتنا المنتشرة في أنحاء الجزيرة بأن قلب الحياة المسيحية هو المسيح ولا أحد غيره. إن الخطة الرعوية الأولى، بل الوحيدة، التي يجب عليك تقديمها هي الشهادة أن أجمل شيء يمكن أن يحدث في حياة المؤمن هو اللقاء مع المسيح، وأن تستمد الجماعة المسيحية حياتها من الإفخارستيا، قبل أي نشاط آخر. وكل الباقي سيزيده الله. أحببتَ خدمتك السابقة، رئيسًا لكنيسة البشارة، حارسًا لسرّ التجسد، في مدينة الناصرة. والآن تستمر خدمتكم هنا بطريقة أخرى، فابذل كل ما في وسعك، لتجسِّدَ حياة المسيح في حياة جماعاتنا المؤمنة.
وأفضل طريقة للقيام بكل هذا، هي ما سمعناه قبل قليل في الإنجيل: الخدمة، كن خادمًا، وأحبِبْ مجانًا، دون توقع أي شيء. قدِّمْ حياتك، يومًا بعد يوم، للقطيع الموكول إليك، "لا تَتَسلَّطوا على الَّذينَ هم في رَعِيَّتكم، بل كونوا قُدْوةً للِقَطيع" (١ بطرس ٥: ٣).
إن "إنجيل الخدمة" الذي اخترته، الأب برونو العزيز، يعيدنا إلى مكان آخر عزيز على الجميع، وخاصة على الرهبان الفرنسيسكان: هو مكان العشاء الأخير في علية صهيون. هناك قام يسوع نفسه بعمل الخدمة مثل العبد، فغسل أقدام تلاميذه، حتى للذي سيخونه فيما بعد.
علية صهيون ليس فقط مكانًا عزيزًا نحِّن إليه، بل هو رمز وبُعدٌ روحي، هو مكان الروح، نشعر بدافع قوي يشُدُّنا إليه. فيه ولدت الإفخارستيا، والكهنوت، فيه كان انتصار الحب، والروح أضرم بناره قلبَ الكنيسةِ.
إننا نمر بأصعب اللحظات في تاريخنا، وليس على الصعيد المحلي فقط. يبدو وكأننا نعيش في ليلة طويلة لا تنتهي. كل شيء تغيَّر ونشعر أحيانًا أنَّا فقدنا الاتجاه. حالة المجتمع، وحالة الكنيسة أيضًا، يبدو وكأنها تسير بسرعة إلى المغيب، وملامح المستقبل الذي ستحل محلها ما زالت مُبهمة للغاية. ونحن، الكنيسة،
مطالَبون بأن نقرر ماذا نفعل، وأين نقف، وكيف نرد. ولا يمكننا أن نقرر دون النظر إلى المسيح. يمكننا في الواقع أن نقرر أن ننام- مثل الرسل في بستان الزيتون – منتظرين أن يمر الليل، أو أن نقاتل بسيف بطرس حتى لا يتغير شيء، أو أن نخون، أي أن نفضل مكاسب اليوم الدنيئة على الرجاء والوعد بشيء جديد.
لكنَّ يسوع قصدُهُ آخَر. إنه يتحدى أسوأ ليلة في حياته بحب أعظم، باذلًا نفسه حتى النهاية في الماء الذي سكبه على أقدام التلاميذ، وفي علامات الخبز الذي كسره والخمرة التي قدمها، وفي ذبيحة ذاته على الصليب. نجتاز الليل بحُبٍّ أكثر، ونعبر الألم والموت بإيمان أكبر: هذا هو قرار المسيح. وليكن هذا قرارك، العزيز الأب برونو. الحب وحده يمكنه أن يغيّر حقًا ويُنَمِّي حياة العالم. وليس أيَّ حب، بل الحب الذي أشار إليه المسيح في الإنجيل. مطلوب منا ومنك أن نقوم بقفزة الإيمان هذه، والرجاء والمحبة، وهي ليست قفزة في الفراغ، بل في الله وكلمته التي تعد بالقيامة.
وأخيرا، في خدمتك يجب أن تكون مدبِّرًا. والإدارة والتدبير نوع من الخدمة. لهذا لا تخلط بين الحب الذي يرشدك وبين صداقة بسيطة. أن تعرف كيف تحب وتغفر وتصغي يقتضي منك أن تعرف كيف تَلِد للإيمان أولاً، وأيضًا للحياة في الكنيسة. عليك أن تتعلم كيف تنشِّئ الكهنة والمؤمنين فينموا ويصيروا بالغين أشدَّاء في الكنيسة، ويجب أن تعلِّمهم الصلاة والتأمل في كلمة الله. ويجب أيضًا أن تتعلَّم كيف تُصلِحُ الأخطاء، وأن تدعو إلى الطاعة، ومتى تقول "نعم" و"لا" عند الضرورة، وقبل كل شيء، يحب أن تعلّم المغفرة، بأن تغفر أنت أولا. محبة الله هي أولاً وقبل كل شيء المغفرة التي ننالها منه تعالى.
ليرى فيك الكهنة والمؤمنون، وكل الناس الذين ستلتقيهم، الشخص الذي يساعدهم للنظر إلى العلى. ساعد كل واحد على أن يرى واقع حياته ليس فقط انطلاقًا من الألم والأوجاع، بل ساعد الجميع لتكون لهم نظرة ممتلئة بحضور الله والكنيسة. صوتك سيكون صوت الكنيسة، ووجهك سيكون وجهها. ليت جزء الكنيسة الموكول إليك يحظى بصوت ووجه من اختبر أوّلًا مغفرة الله ومحبته، ويريد أن يعيش الجميع الخبرة نفسها.
تشجع، فأنت لست وحدك.
قبرص كلها تحتفل معك، وكلنا معك، نشكر الله على زمن النعمة هذه.
نوكل إلى شفاعة عذراء الناصرة، خدمتك هذه الجديدة التي تتخذ اليوم وجهًا جديدًا. وليكن قولكم "نعم" متحدًا بقول مريم "نعم"، فيزهر فرح الخدمة لله والعالم في قلوب المؤمنين في قبرص!
آمين.