ذكرى الموتى المؤمنين في التاريخ واللاهوت
الأب عزيز حلاوة
القدس 2/11/2024
يعود أول ذكر للاحتفال بالقدّاس من أجل جميع الموتى المؤمنين إلى القرن السابع، عند القديس إسيدوروس من سيفيليا (+631) الذي دعا إلى تقديم الذبيحة من أجل جميع الموتى في يوم الاثنين الذي يلي العنصرة.[1] ومن المحتمل جذًا أن يكون هذا امتدادًا وانعكاسًا لعيد جميع القدّيسين الذي كان يُحتفل به قديمًا في الغرب في الأحد التالي للعنصرة على مثال اليونان. وكان هذا الحال في القديم في واجب الصلاة من أجل الموتى في الأيّام التي تلي احتفالًا مهمًا، مثل الإبيفانيا، العنصرة، قديس شفيع لكنيسة ما، الخ. All Saints – All Souls
ويعتقد أنّ أوّل من حَدّد ذكرى الموتى المؤمنين في الثاني من نوفمبر هو القديس أوديلونه، أباتي دير كلوني (904-1048). ويذكر تلميذه وكاتب سيرة حياته هذه القصة التي تُحدِّد أصل العيد:
كان رجل يُبحر من القدس إلى جزيرة صقلية، فأجبرته عاصفة على الالتجاء إلى جزيرة نائية يعيش فيها ناسك قديس. فقصّ الناسك على الرحّال ماذا يجري في هذه الجزيرة من أنّ الشياطين تتذمّر بشدّة من أنّ الصلوات والصدقات التي يقدّمها العديد من المؤمنين الصالحين، وخاصّة رهبان دير كلوني، تنتزع منهم نفوس الموتى الخطأة.
وعندما وصل هذا الرجل إلى موطنه في إكويتانا، حيث دير كلوني، أخبر رئيس الدير، القديس أوديلونه، بكل ما جرى معه. فقرّر القديس أن يُثبِّت تذكارًا سنويًا للصلاة من أجل الموتى المؤمنين في اليوم التالي لعيد جميع القدّيسين. وكان الهدف من تعيين هذا العيد للموتى هو أن يضمّ إلى التذكار العظيم لجميع القدّيسين ذكرى أخرى ليست أقلّ احتفاليّة وهي للموتى المؤمنين.
ثم ظهرت في نهاية القرن الخامس عشر، في دير الدومنيكان في أراغونا (إسبانيا)، العادة في إقامة ثلاثة قداديس كما في عيد الميلاد. وقد ثبّت هذه القداديس البابا بندكتس الخامس عشر سنة 1919 مع نهاية الحرب العالميّة الأولى التي خلّفَت وراءها ملايين القتلى الأبرياء.
بعد ذلك جرَت العادة في إقامة القدّاديس من أجل الموتى في كل شهر وأيضًا في يوم محدّد من الأسبوع. فليس كافيًا أن يُقام تذكار واحد سنوي لجميع الموتى، أي لهذه العائلة الكبيرة من أخوتنا وأخواتنا الراحلين. لذلك نجد في روبريكا (تعليمات) كتاب القدّاس القديم تعليمات بواجب إقامة قداس من أجل الموتى في أول يوم حرّ من الشهر، أي أول يوم ليس فيه ذكرى قدّيس ما، ما عدا في الأزمنة القويّة (المجيء والصوم الأربعيني والفصح)، وذلك في الكاتدرائيّات وكنائس الأديرة الرهبانيّة.
أمّا الذكرى الأسبوعية للموتى فحُدِّدَت في يوم الاثنين. لكن لماذا يوم الاثنين؟ لأنّه وحسب اعتقاد غريب من العصور الوسطى، يرتبط يوم الاثنين براحة يوم الأحد. فاحترامًا لقيامة المسيح، كان يُعتقَد أنّ جميع النفوس، سواء تلك التي في جهنّم أو التي في المطهر، من مساء السبت وحتى صباح الاثنين تأخذ هدنة واستراحة من عذابها. ثمّ تعود في صبيحة الاثنين من جديد إلى العذاب والألم، وذلك تزامنًا مع عودة البشر إلى أعمالهم المعتادة (يوم الاثنين أوّل يوم للعمل).
لربّما هذا الاعتقاد مبالغ فيه، ولكن دافعه الوحيد هو المحبّة والتضامن مع هذه النفوس المعذّبة، لذلك يُقام من أجلها القدّاس يوم الاثنين.
لماذا تُقام القداديس من أجل الموتى ؟
الأحكام العامّة لكتاب القدّاس تذكر: «إنّ الكنيسة المقدّسة تقدّم ذبيحة فصح المسيح الإفخارستيّة من أجل الراقدين، لتكون لهم سندًا روحيًا، ولنا قوّة وعزاءً، وذلك بفضل الشركة الروحية التي تربط جميع أعضاء المسيح.» (379)
ضمن لائحة الأيّام الليتورجيّة في الأحكام العامّة للسنة الليتورجيّة نجد مرتبة تذكار جميع الموتى المؤمنين في نفس مستوى احتفالات الرّب ومريم العذراء والقدّيسين الكبار. وهو العيد الوحيد الذي في مستوى «تذكار» يمكن أن يحلّ مكان الأحد، في حالة وقع تاريخ 2 نوفمبر يوم أحد. بينما تبقى ليتورجيا الساعات للأحد.[2]
وحسب تعليمات الليتورجيا، لكلّ كاهن الحقّ في إقامة ثلاثة قداديس في هذا اليوم: ولكن لكل قداس نيـّة مختلفة: الأوّل من أجل نيّة ميت معيّن، بينما الثاني يجب أن يكون من أجل نفوس المساكين والثالث من أجل نيّات الحبر الأعظم.
في الثلاث قداديس هذه هنالك إجماع، في الصلاة الجامعة، على فكرة القيامة على مثال قيامة المسيح، وفيها طلب لكي ينعم هؤلاء الموتى بالحياة الأبديّة مع الابن القائم.[3]
إنّ الصلاة من أجل الموتى ليست مناسبة للنظر إلى الماضي، وإلى حياة من سبقونا، بل، وهنا التحدّي، هي نظرة نحو المستقبل، إلى حيث هم ونحن سنذهب. فالصلاة من أجل النفوس المطهريّة تجلب معها الإحساس بالمستقبل من الآن، مستقبلنا نحن، متسائلين ولو لبرهة: هل سأجد مَن يُصلّي من أجلي بعد رحيلي؟
أمّا المطهر فهو نوعًا ما «منزل» يقع في منتصف الطريق بين هذه الحياة الأرضيّة والحياة الحقيقيّة في السّماء. بين الزمن والأبديّة. واللاهوت يُعرِّف المطهر كنوع من الزمن أو مرحلة الذي فيه تُمارس الرحمة الإلهيّة. المطهر هو «اللحظة» الأكثر لاهوتيّة لمستقبلنا والذي ينتظرنا جميعًا ما بعد مرحلة الموت.
أخيرًا، الصلاة من أجل الموتى هي أحد أبعاد إيماننا الذي نعترف به ويخصّ «شركة القدّيسين» كما في قانون الإيمان.
[1] Regula S. Isidori, XXIV, 2.
[2] Lang J.P., Dictionary of the Liturgy, 20.
[3] Righetti M., Storia Liturgica, v. II, 512-516.