تأمل غبطة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين
عيد عِمّاد الرَب
7 كانون الأول 2023
مازلنا ممتلئين من نعمة احتفالنا بعيد الظهور: حيث أظهر الله نفسه، وكشفها للبعيدين، ويريد أن يصل بنوره إلى كل إنسان، هو مصدر النور والرحمة والسلام.
واليوم، في عيد معمودية يسوع، يصل لنا النور؛ ويكشف الله لنا عن ذاته بطريقة مفاجئة.
من الواضح أن المقطع الإنجيلي لهذا العيد (مرقس 1، 7 – 11) ينقسم إلى قسمين.
في الجزء الأول (الآيات 7 الى 8) يتحدث عن يوحنا المعمدان، وكرازته والانتظار الذي حفزه: كان يوحنا يُّعلم أن مجيء المسيح وشيكًا وهو مسيح قوي (مرقس 1: 7). كان المعمدان ينتظر مسيحًا قويًا، الذي بقوة سلطانه سيعيد العدالة ويعاقب الخطاة ويقضي على الشر.
هذا ما توقعه يوحنا المعمدان، وقد يبدو توقع كل واحد منا.
ماذا نتوقع من الله: ألسنا نتوقع أن يصلح الأمور ويزيل الظلم بالقوة؟ ألسنا نتوقع إلهًا قادر على كل شيء، وأن يضع حداً لآلامنا؟ ألسنا ننتظر هذا؟
يحدثنا الجزء الثاني من إنجيل اليوم (الآيات 9 الى 11) عن إله مختلف عن توقعاتنا، موضحاً من خلال آياته القليلة، وبشتى الطرق، عن إله متواضع.
الدليل الأول هو أصل المسيح: يقول مرقس أن يسوع لا يأتي من مكان مهم، من مدينة مشهورة. فهو لا يأتي من القدس، المركز السياسي والديني للشعب، ولا من بيت لحم، مدينة داود.
أتى يسوع من ناصرة الجليل، مكان لا أهمية له، من مكان بدا أنه لا يمكن أن يخرج منه أي شيء صالح (يوحنا 1: 46).
ومن الناصرة، ينزل يسوع إلى نهر الأردن، أدنى نقطة على وجه الأرض.
بعد ذلك مباشرة، يعلن مرقس أن المسيح قد جاء، لكنه لا يفعل شيئًا مذهلاً أو مهمًا، بل يفعل كسائر الموجودين، فهو أيضًا يعتمد عن يدي المعمدان.
والدليل الأخير مخفي في صورة السماء المنشقة. إذ يذكر في الأناجيل الأخرى، أن السموات انفتحت وسمع صوت من السماء.
إلا أن الإنجيلي مرقس يستخدم عبارة أقوى فيقول: إن السماوات انشقت.
فما الفرق ؟
الفرق هو أن ما فُتِح يمكن إغلاقه مرة أخرى. لكن ما أنشق لم يعد من الممكن إغلاقه، لأنه سبب تمزق دائم، وهي حالة جديدة لا يمكن الرجوع عنها.
إذا انشقت السماء، فإن كل الحياة والجمال والحب الموجود هناك، لن يعيقها شيء أو أحد، وستتدفق على الأرض.
ويعيد مرقس استخدام هذا الفعل في نهاية إنجيله، عندما يقول، بعد موت يسوع مباشرة، وقد انشق حجاب الهيكل (مرقس 38:15).
يموت يسوع وهو يصرخ نحو الآب، بطريقة ما ينكسر ويبكي لأن صرخة الابن، صرخة الظلم، لا تتركه غير مبال، ولا توجد صرخة تتركه غير مبالٍ على الإطلاق.
يعاد المشهد في المعمودية: أمام هذه الطريقة المتواضعة التي كشف بها يسوع عن نفسه، يفتح الآب عالمه وحياته وكلمته وروحه بشكل قاطع، ويفعل ذلك أمام الجميع، ليكونوا شهوداً لابنه الحبيب.
لا تختلف طريقة حياة الله نفسها عن تلك التي أظهرها: فنحن نعرف الآب من خلال الابن، وهو ما يفعله أي أب بشري إذ نتعرف عليه من خلال ابنه.
وهنا تتضح أكثر نمط رسالة المسيح: فهو إله لا يهرب من الضعف ويسعى أن يتحد مع إخوته البشر.
لقد جاء ليخلصنا عن طريق الصداقة والتضامن: فهو لا يزيل خطايانا من علو، دون الاقتراب منا. لأنه هو الحب سيصل إلينا إلى هاوية حياتنا، ليشاركنا صرختنا، فهو الحب الذي يشق نفسه لأجلنا، جاعلاً منا أطفالًا محبوبين.
+بييرباتيستا